الأربعاء، يناير 01، 2014

eat, pray,love.


كانت إليزابيث امرأةً تبحثُ عن كلمتها الخاصة. فقدت توازن حياتها بحثًا عن توازنها الشخصي، اضطرّت للمرور بكثير من الأسى لتنجح في الوصول إلى ذاتها. انتبهت في خضم فشل زواجها أنها لطالما توّرطت بالآخرين ولم تسمح بمصادقة نفسها عوضًا عن الرجال لفترة. ولعل هذا ما جعلها تُخفقُ كثيرًا، لا يمكن لأحد أن يشارك الآخرين حياةً بنفسٍ تائهةٍ. أرادت إليزابيث التعرف على الله لتجد نفسها، وكان ذاك دافعها للصلاة لأول مرّة. إن الناس يبحثون عن الإله في أكثر مراحل حياتهم حيرة، يبحثون عن الإله سعيًا إلى الطمأنينة. ولأننا كبشر بحاجة لأن نؤمن بأن هناك إله يسيطر على مآسينا حتى لا نفقد إيماننا بالحياة في أوج الفوضى. كانت دموعُ إليزابيث أمام الإله خشوعٌ أكيد. لا أستطيع أن أقول بأن الركوع والسجود أزكى عند الله من دمعة خاشعة، أو غناء صوفي عميق. مهما تعددت الأساليب التي يصلون بها الناس لربهم فإنها تظل صلاة. توجهًا كاملًا باللجوء إلى الذات الإلهية العظيمة. في مشاعر الناس تقوم الصلاة، عند الحيرة والخوف يكون اللجوء صلاةً تامة.
اكتشفت إليزابيث بأن زواجها كان مطبًا كبيرا قبل أن تجد ذاتها، مطّبٌ نست فيه نفسها، ولم تعِ ذلك إلا متأخرًا وعلى حساب شخصٍ آخر، زوجها. كل ذاك الهراء لأجل أنها لم تكن قادرة على الاعتراف بما رغبته منذ البدء. ولأجل ذلك جابت المُدن ترحالًا بحثًا عن الإله، طلبًا للسماح. نحنُ نظن أحيانًا بأننا بحاجة إلى مغفرة الآخرين لخطايانا حتى نرتاح، وكل ما نحتاجه فعلًا هو أن نغفر لأنفسنا. كان على إليزابيث أن تسامح نفسها فقط، هذا ما قاله لها الكهل ريتشارد في النهاية. ريتشارد الذي ندم على كبر ابنه وهو غائب عن حياته. ريتشارد الذي ما زال يحاول أن يغفر لنفسه فقدانه لكل شيء. ابتسمت لشوق ريتشارد إلى ابنه، في الواقع هناك من يكبرون مع أبنائهم وهم لا يعرفون عن أبناءهم شيئا سوى أنهم أملاك خاصة. هناك آباء يعيشون مع أبناءهم ليحولوا حياتهم إلى جحيم لا أكثر. ليت ريتشارد يعرف بأن هناك أبناء يتمنون لو أنهم يفقدون آباءهم إلى الأبد.
ظنَت إليزابيث بأن زوجها قد كرهها لما فعلت، ولكن صديقتها قد طمأنتنها بقول أنه لا يكرهها، وإن قلبه قد كسر فقط.
كم مرة أخطأنا فهم مشاعرنا، ووصفناها بأسماء أخرى؟ نعم، هناك فرق بين أن تكره وبين أن تكون مجروحا، مخذولا ومنكسرًا فقط. لا مفر من الكره، ولكن الجرح كل ما يتطلبه هو الوقت والمساحة الكافية ليطيب.
حينما قررت إليزابيث السفر إلى روما، أرادت صديقتها الذهاب معها، أن تكون معها في خضم التجربة، ولكنها عالقة. أرادت أن تذهب، ولكن لم يعد بالوسع أن تتنصل ما علقت به: طفل، زوج، عائلة، عمل والتزامات كبيرة. الزواج ليس إلا حفرة كبيرة لا سبيل للخروج منها سليما حين يجيء سابقًا لوقته الصحيح.
جميل أن تكتشف نفسك عبر السفر، أن تجرب الثقة في نفسك الوحيدة من جديد. هذا ما فعلته إليزابيث بذهابها إلى روما. لقد جربت متعة أن تتناول السباقيتي بحرية وعبث واستمتاع كامل مع نفسها لأول مرة. أن تستلم لإغراء طبق بيتزا كامل لأول مرة دون أن ينغص عليها شبح الوزن وضرورة ابتياع بنطال جديد. لقد علم الإيطاليون في روما إليزابيث بأن التسلية قد تكون حاضرة في أيامنا، ولكن هناك فرقٌ كبير بين التسلية وبين لذة الاستمتاع بالأشياء. حلاوة أن لا تفعل شيئًا على الإطلاق. علموها أن اللغة لا تنطق فقط، بل إنها تستهلك إشارات اليد أيضًا لتجيدها بروحها الكاملة. وهل هناك ما هو أصدق من إشارات الجسد وتعابيره؟ متعة قراءة انفعالات الناس في انبساط أياديهم وانقباضها؟
أنا ممتنة لإليزابيث الليلة لأنها قالت لي بإلهامها الخاص لا بأس في أن آكل، كل ما علي هو أن أستمتع بطعامي.
عندما انتقلت إليزابيث إلى الهند، والتقت بريتشارد في معبدٍ هناك، قال لها "تشعرين بفظاعة ما ارتكتبته ولا بأس، إن حياتك بفظاعة ما تشعرين في أوج التغيّر" ذكرني ذلك بأبشع مراحل حياتي التي عشت، وكيف كانت -رغم بشاعتها- نقطة مفصلية لتحوّل حياتي إلى دربٍ مختلف بطريقة ما. حتى الفشل يمكن أن يكون طريقًا للتحول، للتغير.
في خضم تجربتها في الهند، وعجزها عن التأمل في البداية، وتخبطها عن إيجاد الإلهام الصحيح التي تجد منه النفاذ إلى الرب، قد عرفت إليزابيث بأن الإله يشغل محلاً في دواخلنا كما نحن. ما كان عليها أن تصبح فتاة هادئة، متعبدة لتجده. كان في داخلها دائما، كما كانت أبدًا.
في رحلتها الأخيرة في مدينة بالي، علمنا الناسك الأندونيسي معها بأن القلب المكسور يعني بأنك قد حاولت شيئَا، أن جراحنا ليست أخطاء تستوجب الندم، بس محاولات تستوجب الرضا عن المحاولة.
لقد أخبرتنا إليزابيث في بالي بدرس عظيم حينما ساعدت تلك المرأة المطلقة وابنتها في شراء منزل، لقد قالت بأنهم عائلتها. وأنه يجب الاعتناء بعوائلنا أينما نجدهم. هذا صحيح، إن اعائلة ليست من نولد بها فقط، في كل بقعة من العالم، وفي كل زمان من لنا عوائل محتملة أخرى. أناس نجد فيهم الانتماء التام الذي ما حظينا به قط عن طريق الدم.
لقد كانت إليزابيث محظوظة في النهاية لأنها وجدت من يقول لها الشيء الصحيح قبل أن يتأخر الوقت تماما، لقد أنقذ الناسك بما قاله في المشهد الأخير الحب الذي كادت أن تلقيه بعيدًا تحت وطأة الجبن والخوف من البدء من جديد. ولسنا كلنا محظوظين بوجود الشخص الصحيح بالقرب عندما نحتاجه.

أختم ما وجدته في هذا الفيلم بعبرة قد تجعلنا ننظر لكل من فشلنا معهم يومًا بشكلٍ مختلف. "كل من تقابله في حياتك مُعلم" نعم، كل من نقابله يعلمنا شيئا، ليس بالضرورة لأنه يرشدنا، بل لأننا نستخرج من تجربتنا معه درسًا جديدًا.


الجمعة، ديسمبر 20، 2013

into the wild.

اُصبتُ بالرهبة في مطلع الفيلم، من ذلك المشهد الذي وقف فيه "كريس" على سفح جبل ثلجي أبيض، وسط البرية القابعة في كآبة البرد، وصمت الشتاء. كثيرًا ما نقول بأننا وحيدون، ولكن هل جربنا الوحدة في هيئتها الكاملة؟ أن تكون وحيدًا فعلا أمر مثير للرهبة. أمر تصعب تجربته في عصرنا هذا. لم يعد بالوسع أن تكون وحيدًا، فأنت محاصر من كل جهة، بالناس، بالتقنية، بالضوضاء، بالأصوات لا يمكن أن تجرب تمام الوحدة.
لماذا أراد "كريس" أن يلقي بنفسه في البرية المقفرة؟ لم يكن ذلك هربًا من أكاذيب والديه فقط، لم يكن ذلك لأنه الشاب المولع بالمغامرة. بل لأنه أراد أن يجرب الحرية في حدها الأقصى، التحرر من كل شيء حتى أساليب العصر الحديث. ذهبَ إلى البر ليعيش حرية الإنسان الأول، الإنسان الذي عرف أن الحرية والجمال البسيط جيدون إلى درجة يصعب تجاوزها بالعودة إلى زيف المُدن.
لفتني المشهد الذي كان يقف فيه "كريس" في ترحاله أمام واجهة مطعم، ينظر إلى الشخص المهندم الوسيم الجالس خلف الطاولة، ويرى فيه نفسه التي كان سيكونها لو لم يقرر الهرب. كان سيكون إحدى خريجي القانون المهندمين، والمتصنعين في ضحكتهم وحديثهم وأخلاقهم. رآه ثم فرّ، فرَّ من الوهم الذي رأى فيه نفسه، كم كان سيتورط في وهمٍ كبير لا يمت بصلة إلى نفسه.
من هذا المشهد عرفت أن المشردون نهاية أكثر حريةً منا، نحن حبيسوا المدن، والمجتمع، والمنازل، والثياب، والمجاملات، والترف. المشردون لا يقيدهم أي زيفٍ، في فوضاهم يمارسون أكثر أشكال الحرية صدقًا.
أذكرُ يوم قلتُ لصديقي أحمد بأن المنازل سجن، وأنني أتمنى لو أكون ابنة الشارع؛ لأن أبناء الشوارع هم الأحرار فعلًا.
كما قالت لانا في المقدمة الشعرية لأغنيتها "ride":

When the people I used to know found out what I had been doing, how I had been living — they asked me why. But there's no use in talking to people who have a home, they have no idea what it's like to seek safety in other people, for home to be wherever you lie your head.


أن تشعر بمنزلك أينما وضعت رأسك. الحرية التي لا نعرفها، ويعرفها المشردون.

حينما كانت شقيقة "كريس" تحكي ما يجري وما تفكر به قالت بأن الحزن قد قرب والديها من بعضهما، وهما اللذان عاشا طوال عمرهما يتشاجران ويتصادمان حتى هرب كريس. هذا صحيح، الناس يلينون مع ما تكلفهم إياه الخسارة. 
بينما قال العجوز الذي قابله "كريس" في أواخر رحلته بأن الأبناء غالبًا ما يصبحون قساة إذا ما تعلق الأمر بوالديهم. 
وأنا بين هذا وذاك أتساءل في حيرة هل أنا القاسية، أم أن والدي هو القاسي الذي لن يلين يوما إلا بعد أن يدرك فداحة خسارته؟ والدي الذي خسرني، وما عاد من الممكن أن أستعيد محله في قلبي.

علمني هذا الفيلم بأن شعور الحب مختلف عندما تكون حرًا، لا. في الحقيقة لا يمكن أن تحبَّ أبدًا وأنتَ لستَ بحر. الآن أعرف هذا أكثر من أي وقت، وأعرفُ أنني لطالما عشتُ أسيرة أشياء وظروف كثيرة، وأن كلَّ ما عشته من عواطف وعلاقات لا يمكن أن تُسمى بالحب، أو حتى أن تقاربه.

انتهى الفيلم كعادتي بالبكاء، الأحرار يمسون شرخًا كبيرًا في داخلي يجعل عيني تئن في دموعها بلا توقف. لأنني السجينة أبدًا، والتي لطالما كانت "الحرية" هاجسي.
حينما تقرأ، وتشاهد، وتسمع، وتتداخل مع قصص الناس وتجاربهم في صمت، توغل فيما يعتقدونه، وتحاول أن تمعن النظر في الحياة عبر كل ما حولك؛ عندها يتقلص اهتمامك بالأشياء. تتقلص أحلامك إلى أشياء أقل ولكن أكثر أهميّة. ولأجل هذا قد صارت كل أحلامي كلمة واحدة هي "الحرّية". لا حُب، لا جنس، لا رجال، لا جمال، لا مال، لا ترف.  كل ما أريده فعلًا وفقط هو أن أصبح حرة.


في النهاية مات "كريس" نتيجة تسممه بإحدى الأعشاب التي تناولها في وحدة مغامرته ليسد جوعه المُلحّ. مات وقد علق لافتة عند رأسه يقول فيها بأن السعادة الحقيقية لا تأتي إلا بالمشاركة. ترى هل ندم "كريس" على وحدته في النهاية؟ مازلت محتارة في دمعته الأخيرة أكانت ملوحة ندمٍ أم عذوبة الرضا. لقد دفع "كريس" ثمن حريته بالموت هشّا، شريدًا، وحيدًأ. نهاية مُكلفة لحياة اختيارها بشجاعة دون انصياع. 


يحضرني ما قاله قاسم حداد هنا: "الإنسان قربان لحريته" .


الثلاثاء، ديسمبر 17، 2013

before midnight.

عدت مع "جيسي" و"سيلين" إلى حالميّة اللقاءات الأولى، تلك العواطف التي نوثقها بخفّة مع غريب لم نعرف منه منذ البدء غير اسمه، وجاذبيته التي شدتنا إليه في مرور على الجسر الزمني نفسه. التتمة لسلسلة عاطفية سبقت هذا الفيلم باثنين آخرين عايشت فيها حميمية المجريات والتصاعدات بين "جيسي" و"سيلين". إنها القصة التي أعطت للقاءات الغرباء وجها آخر غير الرهبة والتحفظ، وجه الانجلاء التام، والتوحد في العاطفة دون شيء آخر. ولكنه في هذه المرة أتى قريبًا إلى واقعية العيش بعيدًا عن ضفة الحلم التي أغرقتني فيه عند المشاهدة الأولى، ورغم ذلك لم يفقد السحر الروائي الذي يجعله يصور حياة تقليدية في بعدٍ فلسفي لا نراه في الغالب. صحيح أنه أعطاني دليلًا آخر من آلاف الأدلة على ضجر الحياة الزوجية، وسرعان سقوطها في هاوية الرتابة قبل أن تنتبه إلى تورطك بأطفال والتزامات عائلية وعملية تأخذك عن نفسك، حتى تظل حريصا ومهووسا بأن تكون مثالي المسؤولية على حساب العناية بنفسك من وقتٍ لآخر، إلا أنه -بالرغم من ذلك كله- نبهني إلى أن بعض الحب لا يموت، حتى وإن توعك بالرتابة والمشاجرات وملل الحياة الزوجية. ليس قصة أراهن على صحتها بالكامل، ولكنها احتمال قائم على كل الأحوال. لطالما كانت تجذبني الكتابة، ولطالما وجدت نفسي مجروفة تجاه الكتاب والشعراء، هؤلاء الذين يمحنون الحياة أُطرًا جميلة في كلمات. كنت أعرف أن لهم طريقة مختلفة للنظر عبر الأشياء، تلك النظرة الموغلة في العمق، والحساسية. في هذا الفيلم شعرت بذلك، شعرت بكل ذلك العمق يجرفني كلما شرح "جيسي" اعتقاده حول ما يجري بطريقته غير المبالية تلك. شيءٌ ما يخبرني أننا عندما نصبح مدركين لعمق الأشياء نتحوّل إلى لا مباليين على الواجهة، وكأننا ندري بأن هناك شيئًا آخر يحتمل أوزانا أكبر على كل الأحداث التي نمر بها ونسمعها.
استوقفتني الشخصيات التي كان "جيسي" يحكي لرفقته عن نية الكتابة عنها، المرأة الكبيرة التي تظن بأن كل ما تمر به شيئًا كان قد حصل مُسبقًا مما يجعلها تظنُّه تكرارًا للذاكرة. الرجل الذي يفكر في كل ما حوله من على ضفة المستقبل البعيد مما يجعله يبدو متشائما في الغالب، كأن يمسك كتابا ثم يفكر: ترى من سيكون آخر من يقرؤه؟
ذاك المشهد الذي يجتمع فيه الرفقة على مائدة واحدة يتبادلون عليها شكر اللحظات الجميلة، التي سرعان ما تنقلب إلى تبادل خبرات الحياة. تلك الطرفة التي يلقيها باتريك المُسّن على "جيسي": "عندما قابلتك أول مرة قلت يستحيل أن يكون رجلاً بهذا الهندام رجلًا يكتب الرسائل" والحقيقة أن كل هؤلاء الذين يكتبون -في نظري على الأقل- هم الأقرب لبساطة المظهر من تكاليف التهندم والتأنق، القانعون ببساطتهم وقبحهم وقلة ذوقهم في انتقاء قميص جميل، لأنهم يعلمون حقيقة أن جاذبية الأشياء تكمن في تفاصيل أخرى. "ستيفانوس" المهووس بالتحليل البورنوغرافي للأشياء، والذي يعتقد بأن السكايب هو البداية لنشوء ظاهرة حياة جنسية تقنية في المستقبل القريب، حيث يكتشفي الناس برعشاتهم على الشاشات. النبرة الدرامية الاعتباطية التي تشرح بها "سيلين" لـ "آنا" طريقة كسب الرجال بجعلهم ينتصرون في التحديات الصغيرة لتحظى بالجنس في النهاية. والطريقة التي تأخذ بها "ناتاليا" العجوز الجميلة الحديث على موجة أخرى تنضح بحزن الحكمة وهي تقول "بأن كل ما نفعله في الحياة هو العبور" ككل الأشياء نعبر، ولهذا نتلاشى مرات، ونبقى حاضرين في الصورة مرات أخرى.  تحكي "آنا" النصيحة التي تركتها لها جدتها في رسالتها محذرة من الانخداع بصورة الحب الرومنسي الجميل. كونه وهم، والحقيقة هي أنّ العمل والصداقها وحدهما اللذان يجلبان السعادة. هذا الاعتقاد يتوافق مع فلسفتي بشكل كبير. لا أدري، ولكني توصلت بشكل ما بأن الحب أتفه بكثير مما ألبسناه إياه من حجم ومعجزات. يقول "باتريك" المسن بأنه أمضى عمرًا مع زوجته لم يكونا فيه شخصاً واحداً قط، كانا اثنين، بغرفتين منفصلتين تجمعها صالة بين الفينة والأخرى، وهكذا عاشا بسعادة ورضى. إن فكرة النصف الآخر هي أكثر الكذبات البشرية توارثاً عبر التاريخ، أغباها على الإطلاق. نحن لسنا بحاجة إلى أحد لنكتمل، ولكننا نتشارك مع الآخرين كإحدى أوجه العيش وخياراته، لا أكثر.
كان مشهدا ملهمًا أحببت تلاقي وجهات النظر فيه بكل ذاك الانسجام. ينقلني ذلك إلى المشهد الذي كان من المفترض أن يكون ليلة حميمة ملونة بالجنس بين "جيسي" و"سيلين" ولكن سرعان ما اكتسح بالشجار. نعم، ذاك النوع من الشجار الأحمق المنتشر بين المتزوجين كالوباء الإنساني العريق. لفتني فيه قول "جيسي" بأنه حاول أن يخلق مساحتهما الخاصة بالرغم من كونهما متزوجان -أعني هو و"سيلين"- والحذر من امتلاك الآخر، يبدولي هذا شيء يصعب على شخص متزوج أن يفهمه، أو يقبله على أقل تقدير. والحقيقة هي أن الزواج دائما ما يكون امتلاكاً للآخر في حقيقته، هذا عقده وهذا معناه. ومن يقول بالعكس يحاول تلميع هذه الحقيقة ورفض الاعتراف بها فقط، إنهم يرفضون الاعتراف بأن الزواج قيد كبير ومخيف وإن تخللته لحظات جميلة وسعيدة.
أحببتُ النهاية المصاغة بأسلوب شاعر لنخاعه، إنها طريقة الكتاب في تسوية الأمور بتلك المعجزة المسماة "الكتابة". في النهاية كان هذا الفيلم بمثابة رهان على أن الكتابة هي الإلهام الذي ينقذ الحياة من قبحها، كلما احتدم المشهد فوحدها مهارة الكلمات والبعد الخيالي ما سينقذك.


الجمعة، ديسمبر 13، 2013

Prozac nation : أكثر من مجرد فيلم

أحد الأفلام التي يصح أن أقول فيها "أصابتني في مقتل"، وتركتني مخضبة بالكثير من البكاء. "ليزي" التي وجدت نفسها منذ فجر مبكر ضالة عن طريق الناس، تبحث عن طريق إلى نفسها المفقودة عبر الكتابة، عن حياة أخرى على كنف الورق. "ليزي" التي مارست الكتابة طويلا حتى صارت لها عملية أكثر تعقيدا من ممارسة يومية. تشبهني "ليزي" بطريقة صارخة في عمقها الماثل نحو الجنون، في الأقاصي المرعبة التي تحتد عندها مشاعرها، في حاجتها الماسة إلى فرصة تنقذها من نفسها، من عمقها الموغل في التعقيد، والكوابيس التي يعيش فيها رأسها مزيدا من القلق ولا ينام. حين صرخت "ليزي" في أوجه رفاقها الذين لا يفهمون بكيت، توحدت في بكائي معها وظللت أردد "أنا أفهم" في لحظة مس فيها صراخها خوفا شاهقا في داخلي.
أفهم قلق ليزي، وأعرف كم يكون مرعبا أن تعجز عن الكتابة، حين يحتشد الكلام في رأسك، وتكاد مواقيت الصبر كلها أن تنفجر، ولكنها لا تفعل، تظل بكل ذاك الإزدحام عالقة في الجهة الخلفية من رأسك، لا سبيل لها إلى الورق رغم أنها تبقى تصخب في بالك دون أن تهدأ.
كبرت "ليزي" طفلة بجراح لا يسعها فؤادها الصغير، مثلي .. تجرعت هموما أكبر حيرة من عمرها الصغير، وحين احتدمت لم تجد من مفر غير السقوط. الاستسلام لحالة سقوط كان لابد أن تأتي لتنقض حزنا عمر على طول السنين. ترى متى تحين لحظة سقوطي؟ متى أفرغ قلبي تماما في سقوط واحد مفجع أستعيد بعده فراغا يحتمل الإقبال على الحياة من جديد؟
ذكرتني "ليزي" بأحوالي الأخيرة وهي تجد نجاتها في مكالمة هاتفية، ذكرتني بمكالماتي الهاتفية المسروقة مع علي، والتي كنت أستنجد بها على عجل من بؤس أيامي. المرات القليلة التي شعرت فيها بوجود رجل يمس قلبي بهذه الخفة، وبأقل قدر من المخاطر. لعلي كنت أكثر نضجا من "ليزي" بعدها، فأنا قد أصبحت أبعد بأشواط من فكرة الانهيار على إثر رجل راحل. الفرق أنني مهما أوغلت رجلا إلى روحي أظل محتفظة بخفتي للعبور في الوقت المناسب، لا للرهانات الكبيرة، ولا للعلاقات المرعبة طويلة الأمد.
كان هذا الفيلم بمثابة فرصة قاسية، ولكن لازمة للتصادم مع شيء سهوت عنه منذ وقت لا أذكره. التصادم الذي خلف نحيبا مخيفا لعواطفي التي ما ظننتها قد تستثار بهذه الحدة مرة أخرى.
نحتاج أن نرى أنفسنا أحيانا من خلال الأشياء، نحتاج أن نحظى بهذه الفرص المفاجئة لننتبه إلى التفاصيل التي جهلناها عندما كنا ماثلين في الصورة، التفاصيل التي ليس بوسعنا أن نعرف بمثولها سوى من خلال أولئك الذين يشبهوننا، ويحملون نصيبا ضئيلا منا.

جر ناعم لـ/ عمر طاهر



من الكتب التي قد تتساءل بداية عن جدواها، كونه أشبه ما يكون بثرثرة لشاب يحاول أن يحشو فراغ وقته بالكلام.
هو كتاب يأخذ الطابع الناعم نفسه المختزل في عنوانه، كتاب صالح لليلة وحيدة تبحث فيها عن رفيق يؤنسك دون أن يوجع رأسك بحديث دسم، أو حوار مستثقف. كتاب مناسب لحالة زهدٍ توّد فيها لو تخلع عن نفسك كل الصفات وتعود إنساناً بسيطًا يثرثر عن مجرياته اليومية مع جاره. يُشعرك الكاتب عمر طاهر فيه بأنه يلغي الحواجز الثقافية، والمسافات المكانية بينك وبينه في النصوص والعبارات التي يكتبها لك بلهجته المصرية الحميمة. كتاب يمنحك الفرصة للإطلاع على الطريقة التي يقرأ بها إنسان ما عناوين حياته، وأشخاصها. كتاب خفيف، لا يناسب أن تنظر إليه بعين ناقدة، فهو لا يتعدى كونه رفيقًا لطيفًا على طاولة مقهى لشخص ضَجِر.

:

اقتباسات:

"كل فترة أعود إلى موبايلي لأمحو الأسماء التي انتهت علاقتي بها ولم يتبقى منها سوى أرقام تنام كجثث في الثلاجة."
"هناك فراغات يتركها الراحلون، فراغات لا يمكن أن تملأها بشخص آخر"
"لا توجد غربة على كوكب الأرض، كل ما هناك مسافات .. مجرد مسافات"
"البشر يموتون قبل أن يعيشوا حياة واحدة حقيقية."
"وطن المرء ليس مكان ولادته، بل المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب"
"كانت نظرته مليئة بالأسئلة الناعمة، ونظرتها مليئة بالقصائد، ولم يكن هناك مفر من قبلة حقيقية وعميقة"
"يفسد الجنس قصص الحب التي لم تنضج بعد"
"اللي عايز يتجوز علشان يستقر زي اللي عايز يقتل علشان ياخد جايزة نوبل للسلام"
"في اللحظة التي تبدأ فيها بمعاملة الكون بإخلاص، يبدأ الكون في فقدان اهتمامه بك"
"أنت طفل لمرة واحدة في حياتك، بعدها عليك أن تبحث عن أعذار جديدة."
"الحياة طريق والناس حوادث."




الأربعاء، نوفمبر 20، 2013

في معنى تحرير المرأة.

لطالما صنف الرجل نفسه تاريخيا على أنه الأساس، والأعلى؛ وقرر من على عرشه الذي صنعه أن تكون المرأة أدنى منه، يحرم عليها ويشترط ما يشاء.

الأمر أشبه برق العبيد، غير أنه هنا رق للمرأة. فكما وجدت العنصرية اللونية ضد السود عبر تزكية البيض وتمجيدهم، وجدت العنصرية الجنسية ضد المرأة، وكما كان من الناتج عن عنصرية اللون، إسقاط إنسانية العبيد، وامتلاكهم، وإباحة دمهم، والتجارة بهم؛ فإن التمييز ضد المرأة تسبب فيقهرها وإلغاء أهليتها وسلبها الحق في ممارسة ما يمارسه الرجل.

وللأسف فإنه من الناتج عن طول هذه الممارسات تحولها من رق خارجي إلى رق نفسي ومعنوي لدى المضطهد، فقد استمر الكثير من العبيد في النظر بدونية لأنفسهم، واعتبار البيض أسيادا لهم؛ كما تسبب ذلك في غرس اعتقاد لا واعي لدى بعض النسوة بضعفهن ودونيتهن عن الرجل، وأنهن عورات كاملة، مسخرات لخدمة الرجل وإشباع رغباته السريرية.وتجد من النساء من تؤثر بسلبية أفكارها على أبناءها من خلال التمييز التربوي، أو حتى في تشكيل عائق أمام تحرر غيرها من النسوة حولها.

للأسف هذه السلوكيات العنصرية توارثتها الحضارات، ورغم أن النضج الثقافي والإنساني ارتقى بهذه المفاهيم وحد منها، إلا أنها مازالت موجودة لدى البعض من قبيل العادة والتقليد والجهل المعرفي.

لذلك مازال هناك قلة يعتقدون أن إنجاب الذكر فخر، وأنه الذي يحمل اسم عائلته ويرتقي بها، الخ من الترهات الأخرى،حتى أن البعض يمارسون هذه العنصرية لفظيا أو فعليا دون وعي، فيستخدمون لفظة : يا عبد، يا أسود، يا حرمة وغيرها، وكلها منطوية على التمييز والاحتقار.

إن ثورة المرأة خلال السنوات الأخيرة ساهمت بشكل كبير في الحد من هذه الممارسات، ورغم أن البعض من الجاهلين يرفعون أصواتهم ضد هذه الثورات ظانين أنها دعوة إلى الانحلال الجنسي فقط، إلا أن الصحيح أنه حينما نقول بأننا نطالب بتحرر المرأة، فإن ما يعنيه ذلك هو المطالبة بإلغاء التمييز الجنسي ضدها.

العري، في مفهوم فني.

الفن الأيروتيكي أعطى للعري مفهوما أنيقا، بعيدا عن الرخص وتسليع الجسد.
فبالرجوع إلى التاريخ الفني نجد أن الجسد كان لبنة أساس في حمل مدلولات متفاوتة بحسب البيئة الخارج منها هذا الفن، أو حتى بالتفاصيل الأخرى التي تأتي مصحوبة في مشهد الجسد.
لم يحتكر الفن الجسد لاستحضار الشبق والإغراء أو تصوير العشق الماجن، بل تعدى ذلك كله إلى مدلولات دينية، واجتماعية،و تصوير حي لحضارة وثقافة بعينها.
فإذا عرفنا التعري بمنظور ثقافي/ فني فإنه يتلخص في كلمة واحدة دقيقة هي "التجرد Nudity"
فقد افترض علماء الأنثروبولوجيا اليونانيين في الإنسان العري، وصنفوا الاحتشام دخيلا عليه، باعتبار أن الإنسان خلق عاريا، ثم اضطرته الظروف البيئية إلى صنع الرداء، قبل أن يستوعب المفهوم الأخلاقي فيه أو يتعرف عليه.
وقد ارتبط التعري أيضا عندهم بالعبادة، فكانوا يعتكفون في المعابد وهم عراة، وذلك على أساس أن الإله خلقهم كذلك.
وإذا ضيقنا الحديث وتطرقنا إلى الجسد من جوانب فنية بحتة، فإن الجسد دخل التصوير الفوتوغرافي باعتباره عنصرا من الجماد، ثابتا عند اللقطة، وكثيرا ما اهتم المصورون بتصوير الجسد مجردا من الشخصية الإنسانية بعينها حتى لا يؤثر بالشخص على روح المعنى في العمل.
ومن أبرز المصورين الذين عرفوا في مجال التصوير الأيروتيكي Ruth Bernhard و Edward Weston.

وقد لوحظ إفراط استخدامهم لجسد المرأة قديما أكثر من الرجل، لأنهم يرونه الجسد الأكثر صراحة وجمالا، إلا أن الفوتوغرافيا الحديثة خرجت عن هذا الإطار، واستخدمت جسد الرجل أيضا كمحرك فني أساسي.

وحين نتحدث عن الجسد في فن النحت، فإننا نجد أن منحوتات الجسد على امتداد الحضارات منطوية على شعارات دينية وعقائدية، فكثيرا ما صورت الألهة في تماثيل عارية تخليدا لأسطورتها وقداستها.
ولم يخرج الرسم بعيدا عن هذه المفاهيم.إن تطرقنا للموقف الاجتماعي من فن الجسد، فلابد أن نذكر أن الاعتقاد الديني يأتي مؤثرا بالدرجة الأولى على هذا الموقف، فكما رحب اليونانيون بالتعري استنادا على فكرة دينية وهي خلق الإله لهم عراة، فإن الكنائس الكاثوليكية في أوروبا قد حاربت قديما هذا الفن باعتباره فسق وفجور، إلا أنها تحررت مع التقدم الحضاري والثقافي لعموم الشعب من هذا الصد.

إن اتجهنا للمجتمع العربي، فإننا قد نجد حتى اليوم وجود هذه الحساسية تجاه تصوير الجسد بسبب سيطرة العقائد الدينية على الرؤية الثقافية أيضا.
إلا أنه بالحديث عن العرب، يجب أن نتذكر معرض الفن التشكيلي الذي أقيم في معهد العالم العربي في باريس عام 2012، وكان عنوانه "الجسد المكشوف" يهدف من خلاله فنانون عرب في الخروج بالجسد من المفهوم العربي السائد، وهو هدف تحرري وليس استفزازي كما صنفه بعض المحافظين.
تعرضت الأعمال المطروحة في حينه إلى الجسد في كافة حالاته، من المعاناة والألم، إلى اللذة والنشوة، ولم تغفل الأعمال شفافية طرح وضع المرأة المهمشة والمعنفة في العالم العربي بوجه خاص.من أبرز الأعمال في هذا المعرض، الفيديو القصير للفنان عادل العابدين، الذي مرر فكرة تهميش المرأة وتعنيفها بين لا مبالاة رجلين.

 https://www.youtube.com/watch?v=drSa9ZKadSg&feature=youtube_gdata_player

إن أردنا أن نستشف المعنى من خلال الجسد أو التعري فلابد أن ننظر له نظرة متأمل متجردة من الأحكام الأخلاقية أو الدينية الحادة والإقصائية، فالعري يحتمل أبعادا أخرى نبيلة وثورية، كما عبرت الفنانة التشكيلية هالة الفيصل عن احتجاجها على الحرب بتعرية جسدها، وكما فعلت الشابة المصرية علياء المهدي بنشر صورها عارية على مدونتها من منطلق التمرد على القيود، وإعلان الحرية.

عن الجسد: ما بين الروح والفضيلة.

الحديث عن الجسد عميق جدا، ممتع ومغري، ومخيف أحيانا لما يحتمله من خبايا.
أول الأفكار التي عرقلت علاقة الإنسان بجسده هي ارتباط الجسد بالخطيئة، وربط الروح بالفضيلة، هذه الفكرة التي صنعت علاقة عدائية بين الروح والجسد، والتي جعلت الإنسان يهمل جسده أو يتوجس منه بدافع الفضيلة
والواقع أن الجسد شيء لا يمكن فصله عن الروح، لأنهما مكونان أساسيين لذاتك الإنسانية .. التناغم هو ما يفترض بالعلاقة بين الروح والجسد أن تكون عليه.
أن ترتقي بروحك فإنه ولابد أن ترتقي معها بجسدك، فجسدك صورة معلنة عن عمق هذه الروح.
حين نتحدث عن الجسد، يجب ألا يفوتنا أن الجسد ليس مجرد واقع طبيعي أو مادة حية، فالجسد يحتمل بعد آخر هو المفهوم الاجتماعي للجسد.
وهذا المفهوم يؤثر على علاقة الإنسان بجسده، ولهذا نجد أن العلاقة شائكة بين المرأة وجسدها بوجه خاص في العالم العربي، بسبب المفهوم العرفي الاجتماعي في تصنيف جسدها على أنه "عورة".
علاقة النساء بأجسادهن مهملة، وكلما دخلت في مجتمع أكثر تحفظ على أجساد النساء، وجدت العلاقة بينهما مهملة أكثر.
نحن كشعب عربي خاصة نفتقر إلى ثقافة الجسد، وفلسفته .. وعلاقتنا به سطحية، لا أبعاد للتصالح والتناغم فيها.

لتخلق علاقة حميمية بجسدك عليك أن تتجرد من التصورات الاجتماعية التي تنصب ضده، اكتشف جسدك، اقرأ عنه، افهمه، افهم رغباته لتحبه.
ستحترم جسدك حين تدرك عمق ما ينطوي عليه، حين تعترف بأنه مادة غير منفصلة عن كيانك.
علاقة الإنسان بجسده تظهر عبر تدليله لهذا الجسد، والعناية به، فالصحة الجسدية و النظافة الشخصية من أهم مقومات علاقة الإنسان بجسده.
أيضا من المهم أن تتصالح مع "شكل" جسدك، والطبيعة التي خلق عليها .. وألا تسمح لأحكام الناس القاصرة والظالمة بالسيطرة على نظرتك اتجاهه.
أحب جسدك ببساطة، شكلا ومضمونا.

الأحد، نوفمبر 17، 2013

لماذا نكتب؟

لماذا نكتب؟

يلح اليوم السؤال، وتبدو كل الأجوبة صحيحة. هو السؤال الذي لا يحتمل المنطقية في جواب، السؤال الذي أقسم على الحياة بحياة أخرى.
لطالما كانت الكتابة فعل حياة، وهكذا سمعت كل من يكتب يشي لنفسه بحياة ينقذ فيها نفسه من الموت الذي نعيشه خارج الورق. بالكتابة حجز كل منا مقعده في الخلود، وقررنا على أنفسنا ألا نمحى كعداد البشر. كان علينا أن نخرج من بشريتنا بالكتابة، أن نتحول إلى فكرة ومشاعر وحروف وكلمات مصفوفة أو مبعثرة ... لا يهم، المهم أن نخرج من عمر الإنسان الذي لا ينفك عن عداد النزول إلى حيث لا تموت الأشياء، في حضن الورق.

منذ بح صوتي في هذه البقعة الجافة من المآسي القدرية، عرفت أنه قد حان الوقت لأنتصف لصوتي وأبعثه في كيان آخر، وكان الورق المالس والأبيض، هذا الناعم الذي يحتمل وزن الكلام والبكاء والفرح وكل حالات الخشوع النفسية، هو أكثر الكيانات شبها بصوتي. هذا الورق الذي لا يدنس مهما تعدينا على بياضه بحلكة المحابر.
كان علي أن أكتب، لأكتشف بأني أولد من فروج الأقلام عارية نقية. لأصادق العالم على وجودي، أعلنت أن أكتب. وحتى إذا ما مرت السنوات على ذكري، وحتى إذا ما أضعت في منافي الحياة بقايا الشخص الذي كنت أريد أن أكونه، كان علي أن أكتب، وأقول للناس بأنني هنا على الورق حقيقية تماما، ناضرة عن شوائب العيش وضرائبه، آمنة من تهديد الأسلحة، وأفواه المجتمع التي تلوك العرايا الساذجين دون أدنى رحمة.

على كل واحد منا أن يواجه هيبة السؤال، وينبش في صدره عن إجابة، عن حياة أراد أن يحياها، حياة لم يعطها القدر تأشيرة مرور ولكنه غصبا صنعها لنفسه وبها.

لماذا نكتب؟
لأن الحياة سيناريو ناقص كان من الواجب علينا أن نتمه على ضفة أحلامنا المؤجلة في الأدراج، ولأن الأقلام علمتنا كيف نحيي في أصواتنا صخب الثورات، وكيف نبكي مرارا دون أن نفضح، وكيف نئن بعيدا ولا نثير امتعاض الآخرين بضخامة أوجاعنا.

الكتابة ممارسة نبيلة، وأنا أكتب؛ لأنتصف لنفسي المظلومة بعدالة أخرى، عدالة لا تعلق على رؤوس السيوف ولا تحضر في قاعات المحاكم.
أنا أكتب؛ لأن العيش هنا، في هذا الزمن، في هذه البلاد، وتحت وطأة ظروفي هذه، وخلف كل هذه الجدران الباهتة الموصدة عيش يحتسب من رصيد الموت لا الحياة، موت سابق لحياة لا ضمانة لي على مجيئها متأخرة، فكان علي أن أكتب، لأبرهن بحجة الكتابة التي لا تسقط ولا تبطل أنني كنت يوما هنا حية.

الأربعاء، يناير 23، 2013

.


في مواسم الخريف، تخنع الأزهار للذبول؛
و تتجرد في أوج احتضارها من علائق العمر القديم،
و تستقبل في موتها ميلادا جديد. 
و ها هو الخريف يا الله، 
فترفق بطور ذبولي . . حتى يحين الربيع.