لماذا أراد "كريس" أن يلقي بنفسه في البرية المقفرة؟ لم يكن ذلك هربًا من أكاذيب والديه فقط، لم يكن ذلك لأنه الشاب المولع بالمغامرة. بل لأنه أراد أن يجرب الحرية في حدها الأقصى، التحرر من كل شيء حتى أساليب العصر الحديث. ذهبَ إلى البر ليعيش حرية الإنسان الأول، الإنسان الذي عرف أن الحرية والجمال البسيط جيدون إلى درجة يصعب تجاوزها بالعودة إلى زيف المُدن.
لفتني المشهد الذي كان يقف فيه "كريس" في ترحاله أمام واجهة مطعم، ينظر إلى الشخص المهندم الوسيم الجالس خلف الطاولة، ويرى فيه نفسه التي كان سيكونها لو لم يقرر الهرب. كان سيكون إحدى خريجي القانون المهندمين، والمتصنعين في ضحكتهم وحديثهم وأخلاقهم. رآه ثم فرّ، فرَّ من الوهم الذي رأى فيه نفسه، كم كان سيتورط في وهمٍ كبير لا يمت بصلة إلى نفسه.
من هذا المشهد عرفت أن المشردون نهاية أكثر حريةً منا، نحن حبيسوا المدن، والمجتمع، والمنازل، والثياب، والمجاملات، والترف. المشردون لا يقيدهم أي زيفٍ، في فوضاهم يمارسون أكثر أشكال الحرية صدقًا.
أذكرُ يوم قلتُ لصديقي أحمد بأن المنازل سجن، وأنني أتمنى لو أكون ابنة الشارع؛ لأن أبناء الشوارع هم الأحرار فعلًا.
كما قالت لانا في المقدمة الشعرية لأغنيتها "ride":
When the people I used to know found out what I had been doing, how I had been living — they asked me why. But there's no use in talking to people who have a home, they have no idea what it's like to seek safety in other people, for home to be wherever you lie your head.
في النهاية مات "كريس" نتيجة تسممه بإحدى الأعشاب التي تناولها في وحدة مغامرته ليسد جوعه المُلحّ. مات وقد علق لافتة عند رأسه يقول فيها بأن السعادة الحقيقية لا تأتي إلا بالمشاركة. ترى هل ندم "كريس" على وحدته في النهاية؟ مازلت محتارة في دمعته الأخيرة أكانت ملوحة ندمٍ أم عذوبة الرضا. لقد دفع "كريس" ثمن حريته بالموت هشّا، شريدًا، وحيدًأ. نهاية مُكلفة لحياة اختيارها بشجاعة دون انصياع.
يحضرني ما قاله قاسم حداد هنا: "الإنسان قربان لحريته" .