الثلاثاء، ديسمبر 17، 2013

before midnight.

عدت مع "جيسي" و"سيلين" إلى حالميّة اللقاءات الأولى، تلك العواطف التي نوثقها بخفّة مع غريب لم نعرف منه منذ البدء غير اسمه، وجاذبيته التي شدتنا إليه في مرور على الجسر الزمني نفسه. التتمة لسلسلة عاطفية سبقت هذا الفيلم باثنين آخرين عايشت فيها حميمية المجريات والتصاعدات بين "جيسي" و"سيلين". إنها القصة التي أعطت للقاءات الغرباء وجها آخر غير الرهبة والتحفظ، وجه الانجلاء التام، والتوحد في العاطفة دون شيء آخر. ولكنه في هذه المرة أتى قريبًا إلى واقعية العيش بعيدًا عن ضفة الحلم التي أغرقتني فيه عند المشاهدة الأولى، ورغم ذلك لم يفقد السحر الروائي الذي يجعله يصور حياة تقليدية في بعدٍ فلسفي لا نراه في الغالب. صحيح أنه أعطاني دليلًا آخر من آلاف الأدلة على ضجر الحياة الزوجية، وسرعان سقوطها في هاوية الرتابة قبل أن تنتبه إلى تورطك بأطفال والتزامات عائلية وعملية تأخذك عن نفسك، حتى تظل حريصا ومهووسا بأن تكون مثالي المسؤولية على حساب العناية بنفسك من وقتٍ لآخر، إلا أنه -بالرغم من ذلك كله- نبهني إلى أن بعض الحب لا يموت، حتى وإن توعك بالرتابة والمشاجرات وملل الحياة الزوجية. ليس قصة أراهن على صحتها بالكامل، ولكنها احتمال قائم على كل الأحوال. لطالما كانت تجذبني الكتابة، ولطالما وجدت نفسي مجروفة تجاه الكتاب والشعراء، هؤلاء الذين يمحنون الحياة أُطرًا جميلة في كلمات. كنت أعرف أن لهم طريقة مختلفة للنظر عبر الأشياء، تلك النظرة الموغلة في العمق، والحساسية. في هذا الفيلم شعرت بذلك، شعرت بكل ذلك العمق يجرفني كلما شرح "جيسي" اعتقاده حول ما يجري بطريقته غير المبالية تلك. شيءٌ ما يخبرني أننا عندما نصبح مدركين لعمق الأشياء نتحوّل إلى لا مباليين على الواجهة، وكأننا ندري بأن هناك شيئًا آخر يحتمل أوزانا أكبر على كل الأحداث التي نمر بها ونسمعها.
استوقفتني الشخصيات التي كان "جيسي" يحكي لرفقته عن نية الكتابة عنها، المرأة الكبيرة التي تظن بأن كل ما تمر به شيئًا كان قد حصل مُسبقًا مما يجعلها تظنُّه تكرارًا للذاكرة. الرجل الذي يفكر في كل ما حوله من على ضفة المستقبل البعيد مما يجعله يبدو متشائما في الغالب، كأن يمسك كتابا ثم يفكر: ترى من سيكون آخر من يقرؤه؟
ذاك المشهد الذي يجتمع فيه الرفقة على مائدة واحدة يتبادلون عليها شكر اللحظات الجميلة، التي سرعان ما تنقلب إلى تبادل خبرات الحياة. تلك الطرفة التي يلقيها باتريك المُسّن على "جيسي": "عندما قابلتك أول مرة قلت يستحيل أن يكون رجلاً بهذا الهندام رجلًا يكتب الرسائل" والحقيقة أن كل هؤلاء الذين يكتبون -في نظري على الأقل- هم الأقرب لبساطة المظهر من تكاليف التهندم والتأنق، القانعون ببساطتهم وقبحهم وقلة ذوقهم في انتقاء قميص جميل، لأنهم يعلمون حقيقة أن جاذبية الأشياء تكمن في تفاصيل أخرى. "ستيفانوس" المهووس بالتحليل البورنوغرافي للأشياء، والذي يعتقد بأن السكايب هو البداية لنشوء ظاهرة حياة جنسية تقنية في المستقبل القريب، حيث يكتشفي الناس برعشاتهم على الشاشات. النبرة الدرامية الاعتباطية التي تشرح بها "سيلين" لـ "آنا" طريقة كسب الرجال بجعلهم ينتصرون في التحديات الصغيرة لتحظى بالجنس في النهاية. والطريقة التي تأخذ بها "ناتاليا" العجوز الجميلة الحديث على موجة أخرى تنضح بحزن الحكمة وهي تقول "بأن كل ما نفعله في الحياة هو العبور" ككل الأشياء نعبر، ولهذا نتلاشى مرات، ونبقى حاضرين في الصورة مرات أخرى.  تحكي "آنا" النصيحة التي تركتها لها جدتها في رسالتها محذرة من الانخداع بصورة الحب الرومنسي الجميل. كونه وهم، والحقيقة هي أنّ العمل والصداقها وحدهما اللذان يجلبان السعادة. هذا الاعتقاد يتوافق مع فلسفتي بشكل كبير. لا أدري، ولكني توصلت بشكل ما بأن الحب أتفه بكثير مما ألبسناه إياه من حجم ومعجزات. يقول "باتريك" المسن بأنه أمضى عمرًا مع زوجته لم يكونا فيه شخصاً واحداً قط، كانا اثنين، بغرفتين منفصلتين تجمعها صالة بين الفينة والأخرى، وهكذا عاشا بسعادة ورضى. إن فكرة النصف الآخر هي أكثر الكذبات البشرية توارثاً عبر التاريخ، أغباها على الإطلاق. نحن لسنا بحاجة إلى أحد لنكتمل، ولكننا نتشارك مع الآخرين كإحدى أوجه العيش وخياراته، لا أكثر.
كان مشهدا ملهمًا أحببت تلاقي وجهات النظر فيه بكل ذاك الانسجام. ينقلني ذلك إلى المشهد الذي كان من المفترض أن يكون ليلة حميمة ملونة بالجنس بين "جيسي" و"سيلين" ولكن سرعان ما اكتسح بالشجار. نعم، ذاك النوع من الشجار الأحمق المنتشر بين المتزوجين كالوباء الإنساني العريق. لفتني فيه قول "جيسي" بأنه حاول أن يخلق مساحتهما الخاصة بالرغم من كونهما متزوجان -أعني هو و"سيلين"- والحذر من امتلاك الآخر، يبدولي هذا شيء يصعب على شخص متزوج أن يفهمه، أو يقبله على أقل تقدير. والحقيقة هي أن الزواج دائما ما يكون امتلاكاً للآخر في حقيقته، هذا عقده وهذا معناه. ومن يقول بالعكس يحاول تلميع هذه الحقيقة ورفض الاعتراف بها فقط، إنهم يرفضون الاعتراف بأن الزواج قيد كبير ومخيف وإن تخللته لحظات جميلة وسعيدة.
أحببتُ النهاية المصاغة بأسلوب شاعر لنخاعه، إنها طريقة الكتاب في تسوية الأمور بتلك المعجزة المسماة "الكتابة". في النهاية كان هذا الفيلم بمثابة رهان على أن الكتابة هي الإلهام الذي ينقذ الحياة من قبحها، كلما احتدم المشهد فوحدها مهارة الكلمات والبعد الخيالي ما سينقذك.


ليست هناك تعليقات: