الجمعة، ديسمبر 20، 2013

into the wild.

اُصبتُ بالرهبة في مطلع الفيلم، من ذلك المشهد الذي وقف فيه "كريس" على سفح جبل ثلجي أبيض، وسط البرية القابعة في كآبة البرد، وصمت الشتاء. كثيرًا ما نقول بأننا وحيدون، ولكن هل جربنا الوحدة في هيئتها الكاملة؟ أن تكون وحيدًا فعلا أمر مثير للرهبة. أمر تصعب تجربته في عصرنا هذا. لم يعد بالوسع أن تكون وحيدًا، فأنت محاصر من كل جهة، بالناس، بالتقنية، بالضوضاء، بالأصوات لا يمكن أن تجرب تمام الوحدة.
لماذا أراد "كريس" أن يلقي بنفسه في البرية المقفرة؟ لم يكن ذلك هربًا من أكاذيب والديه فقط، لم يكن ذلك لأنه الشاب المولع بالمغامرة. بل لأنه أراد أن يجرب الحرية في حدها الأقصى، التحرر من كل شيء حتى أساليب العصر الحديث. ذهبَ إلى البر ليعيش حرية الإنسان الأول، الإنسان الذي عرف أن الحرية والجمال البسيط جيدون إلى درجة يصعب تجاوزها بالعودة إلى زيف المُدن.
لفتني المشهد الذي كان يقف فيه "كريس" في ترحاله أمام واجهة مطعم، ينظر إلى الشخص المهندم الوسيم الجالس خلف الطاولة، ويرى فيه نفسه التي كان سيكونها لو لم يقرر الهرب. كان سيكون إحدى خريجي القانون المهندمين، والمتصنعين في ضحكتهم وحديثهم وأخلاقهم. رآه ثم فرّ، فرَّ من الوهم الذي رأى فيه نفسه، كم كان سيتورط في وهمٍ كبير لا يمت بصلة إلى نفسه.
من هذا المشهد عرفت أن المشردون نهاية أكثر حريةً منا، نحن حبيسوا المدن، والمجتمع، والمنازل، والثياب، والمجاملات، والترف. المشردون لا يقيدهم أي زيفٍ، في فوضاهم يمارسون أكثر أشكال الحرية صدقًا.
أذكرُ يوم قلتُ لصديقي أحمد بأن المنازل سجن، وأنني أتمنى لو أكون ابنة الشارع؛ لأن أبناء الشوارع هم الأحرار فعلًا.
كما قالت لانا في المقدمة الشعرية لأغنيتها "ride":

When the people I used to know found out what I had been doing, how I had been living — they asked me why. But there's no use in talking to people who have a home, they have no idea what it's like to seek safety in other people, for home to be wherever you lie your head.


أن تشعر بمنزلك أينما وضعت رأسك. الحرية التي لا نعرفها، ويعرفها المشردون.

حينما كانت شقيقة "كريس" تحكي ما يجري وما تفكر به قالت بأن الحزن قد قرب والديها من بعضهما، وهما اللذان عاشا طوال عمرهما يتشاجران ويتصادمان حتى هرب كريس. هذا صحيح، الناس يلينون مع ما تكلفهم إياه الخسارة. 
بينما قال العجوز الذي قابله "كريس" في أواخر رحلته بأن الأبناء غالبًا ما يصبحون قساة إذا ما تعلق الأمر بوالديهم. 
وأنا بين هذا وذاك أتساءل في حيرة هل أنا القاسية، أم أن والدي هو القاسي الذي لن يلين يوما إلا بعد أن يدرك فداحة خسارته؟ والدي الذي خسرني، وما عاد من الممكن أن أستعيد محله في قلبي.

علمني هذا الفيلم بأن شعور الحب مختلف عندما تكون حرًا، لا. في الحقيقة لا يمكن أن تحبَّ أبدًا وأنتَ لستَ بحر. الآن أعرف هذا أكثر من أي وقت، وأعرفُ أنني لطالما عشتُ أسيرة أشياء وظروف كثيرة، وأن كلَّ ما عشته من عواطف وعلاقات لا يمكن أن تُسمى بالحب، أو حتى أن تقاربه.

انتهى الفيلم كعادتي بالبكاء، الأحرار يمسون شرخًا كبيرًا في داخلي يجعل عيني تئن في دموعها بلا توقف. لأنني السجينة أبدًا، والتي لطالما كانت "الحرية" هاجسي.
حينما تقرأ، وتشاهد، وتسمع، وتتداخل مع قصص الناس وتجاربهم في صمت، توغل فيما يعتقدونه، وتحاول أن تمعن النظر في الحياة عبر كل ما حولك؛ عندها يتقلص اهتمامك بالأشياء. تتقلص أحلامك إلى أشياء أقل ولكن أكثر أهميّة. ولأجل هذا قد صارت كل أحلامي كلمة واحدة هي "الحرّية". لا حُب، لا جنس، لا رجال، لا جمال، لا مال، لا ترف.  كل ما أريده فعلًا وفقط هو أن أصبح حرة.


في النهاية مات "كريس" نتيجة تسممه بإحدى الأعشاب التي تناولها في وحدة مغامرته ليسد جوعه المُلحّ. مات وقد علق لافتة عند رأسه يقول فيها بأن السعادة الحقيقية لا تأتي إلا بالمشاركة. ترى هل ندم "كريس" على وحدته في النهاية؟ مازلت محتارة في دمعته الأخيرة أكانت ملوحة ندمٍ أم عذوبة الرضا. لقد دفع "كريس" ثمن حريته بالموت هشّا، شريدًا، وحيدًأ. نهاية مُكلفة لحياة اختيارها بشجاعة دون انصياع. 


يحضرني ما قاله قاسم حداد هنا: "الإنسان قربان لحريته" .


هناك تعليق واحد:

م.طارق الموصللي يقول...

أحمّل الفيلم من النت
سأشاهده , و قد أعود لأخبرك ِ برأيي به.

سعيد لأنني قريب من روح حرّة ^_^